أوروبا والغاز الطبيعي .. الأزمة والخيارات المتاحة
رائد العبيدي
منذ الثورة الصناعية كانت الطاقة ولا تزال الصناعة الاستراتيجية التي ارتبطت بها مصائر الدول والأمم، وقامت من أجلها الأزمات والحروب، وجيّشت الجيوش وسعّرت نار الحروب ، فكل البضائع في السوق تخضع لقانون العرض والطلب باستثناء النفط والغاز فهي تخضع إضافة الى العرض والطلب الى الأزمات السياسية وخاصة في المناطق الغنية بالنفط والغاز، لهذا فأن أي ازمة سياسية من أي نوع يكون لها الأثر الكبير في صعود الأسعار خوفاً من تأثر امدادات الطاقة الى الدول الصناعية.
وبسبب الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا وتوقعات حدوث مواجهة عسكرية بين الطرفين أو قيام روسيا بغزو أوكرانيا فقد اصبحت امدادات الغاز الروسي الى اوروبا مهددة مما يعني حرمان ملايين الأوربيين من الغاز في ظل شتاء شديد البرودة هذه السنة.
امدادات الغاز الى أوروبا :
كون أغلب الدول الأوربية هي دول صناعية ، فان حاجتها للطاقة قد تكون الأكبر بين القارات والأمم الأخرى ، وتتضارب الأرقام المعلنة عن الأحتياج الأوروبي للغاز الطبيعي ولكن أكثرها قبولاً هو 552 مليار متر مكعب سنوياً حسب تقرير (وكالة الطاقة الدولية International Energy Agency IEA) لعام 2021 بزيادة مقدارها 5.5% ومن المتوقع أن ينزل الى 527 مليار متر مكعب هذه السنة بفعل تقليل حرق الغاز في قطاع الطاقة.
ومع تزايد التوترات نهاية العام الماضي ارتفع سعر الغاز في أوروبا مسجلاً معدلات قياسية بأكثر من 3 أضعاف ونصف لتتجاوز تكلفة الألف متر مكعب من الغاز قبل 3 اشهر حاجز 900 دولار في حين وصل في الولايات المتحدة الى أعلى سعر خلال عقد من الزمن ، معززاً بقلة العرض ومستويات الخزن المنخفضة والتوقفات في المنشآت السطحية ، فيما يراه البعض تلاعباً روسياً في سوق الطاقة من اجل الحصول على الترخيص اللازم لتشغيل خط نورد ستريم 2 ، وفي ظل الأزمة بينها وبين اوكرانيا التي قد تؤدي الى صراع مسلح يقطع امدادات الغاز الروسي الى أوروبا ، يأتي ذلك مع انخفاض احتياطيات الغاز في القارة إلى أدنى مستوى له منذ سنوات وتصاعد التوتر مع روسيا، التي قد توقف تزويد أوروبا بالغاز جراء الأزمة في شرق أوكرانيا ، وحسب تصريح لكبير المحللين الاقتصاديين في “كومرتس بنك” ومقره الرئيسي فرانكفورت – “يبلغ المخزون في الوقت الحالي حوالي 47٪ من السعة الكاملة”.
ومصادر الغاز الطبيعي الى أوروبا هي كالآتي:
اولا – الغاز الروسي :
أن انتاج روسيا الكلي من الغاز يصل الى 763 مليار متر مكعب اما الغاز المصدّر الى اوروبا فتصل كميته الى حوالي 230 مليون متر مكعب في اليوم ويمثل 40% تقريبا من حاجة أوروبا ويدخلها عبر خطوط مختلفة منها خط أنابيب (يامال – أوروبا)الذي تبلغ طاقته 33 مليار متر مكعب ويرسل سدس صادرات الغاز الروسي الى أوروبا اضافة الى خطي نورد ستريم ، فما هو خط نورد ستريم؟
ما هو نورد ستريم أو السيل الشمالي Nord Stream:
مشروع لنقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق يتكون من مرحلتين (نورد ستريم 1) و(نورد ستريم 2) بأنبوب مزدوج لكل منهما يتجاوز طول كل فرع منه 1200 كيلومتر، وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت مياه البحر.
وأعلنت شركة “غاز بروم” (Gazprom) الروسية للطاقة عن المشروع نورد ستريم 2 في 2017، وبدأ العمل عليه في 2018 بميزانية حددت آنذاك بنحو 8 مليارات دولار. وبحسب الشركة، يستطيع الخط نقل كمية سنوية من الغاز تبلغ نحو 55 مليار متر مكعب، أي أنه قادر على تلبية كامل الحاجة الأوروبية للوقود الأزرق. ليصبح مجموع ما ينقله خطا نورد ستريم 1 و 2 حوالي 110 مليار متر مكعب.
ثانياً – الغاز الجزائري:
تعتبر شركة سوناطراك الجزائرية ثاني أكبر مصدّر للغاز الى أوروبا بعد غاز بروم حيث ترتبط الجزائر بالقارة الأوربية عبر ثلاثة أنابيب لنقل الغاز من حقل حاسي الرمل الضخم جنوبي البلاد وأماكن أخرى، أحدها توقف قبل أشهر في حين ما زال أنبوبان قيد الخدمة تبلغ طاقتها 42 مليار متر مكعب من المجموع الكلي لأنتاج الجزائر من الغاز البالغ 130 مليار متر مكعب ، وقد علق احد الخبراء في شركة سوناطراك أن كميات الغاز التي تصدرها الجزائر سنوياً إلى أوروبا تفوق 42 مليار متر مكعب، فيما بإمكان أنبوب روسي واحد أن يضخّ هذه الكميات.
إقرأ أيضاً سوق الغاز الطبيعي
وفي سياق متصل توقعت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها السنوي أن يصل سعر الغاز الى 26 دولاراً لكل مليون وحدة حرارة بريطانية mmBTU بسبب استمرار انخفاض المخزونات وقلة المعروض ، كما تحدث تقريرها عن احتمال انخفاض السعر في النصف الثاني من 2021 في حال توفر المزيد من المعروض ، كل هذه المؤشرات تدعو الى البحث عن بدائل لتجهيز القارة العجوز بالغاز.
أهمية أوكرانيا بالنسبة للغاز الأوربي:
ورثت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي السابق ثاني أكبر شبكة لنقل وتوزيع الغاز في أوروبا، بعد روسيا، وهي شبكة تضم نحو 37.1 ألف كلم من الأنابيب الرئيسية، مع 72 محطة للضغط، و13 منشأة للتخزين تحت الأرض بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب، أي ما يعادل نحو 21.3% من الحاجة السنوية للغاز في عموم القارة الأوروبية، ولكن مع كل هذا فانها لا تزال تعاني من ازمة طاقة ، اضافة الى أن خط نورد ستريم يهدد اقتصاد اوكرانيا بخسائر سنوية تتراوح بين 2 – 3 مليار دولار من رسوم العبور اضافة الى أنه قد يحول منشآت نقل الغاز الى خردة مع خسارة الكثيرين لوظائفهم.
البدائل المطروحة:
في المحصلة فأن الغاز الطبيعي الذي يعتبر الآن أحد أكبر مصادر الطاقة في العالم وخاصة ً في قارة أوروبا ، مما يعني حصول العديد من الصراعات السياسية في المستقبل بسبب الغاز وبسبب رغبة كل من المنتجين الكبار الظفر بحصة الأسد من تصدير الغاز الى أوروبا ، وبالتالي فأن صعود أسعاره أمر محتمل جداً بوجود كل هذه العوامل وفي ظل تناقص المخزون الأوربي فأن على أوروبا البحث عن بدائل مختلفة للخروج من هيمنة الغاز الروسي على مقدراتها وإلا سيصبح الغاز سلاح ضغط قوي بيد روسيا ، فهل ستسكت أوروبا وتبقى مكتوفة الأيدي مقابل كل ما يحصل ؟ بالتأكيد لا ولكن خطواته اللاحقة ستبقى غير معروفة لكن المؤكد أنها ستحاول بالتأكيد الحفاظ على أمن الطاقة لدولها.
خبرة 20 عاماً من العمل في منشآت إنتاج ومعالجة النفط والغاز الطبيعي.
له العديد من المقالات والدراسات حول الصناعة النفطية وخاصة ما يتعلق بالمنشآت السطحية.
اضافة الى العديد من المحاضرات المسموعة والمرئية على اليوتيوب.
مؤلف كتاب (انتاج النفط والغاز الطبيعي)
المصادر:
1. التقرير السنوي لوكالة الطاقة الدولية IEA Annual Report 2021
2. موقع الجزيرة نت وموقع الطاقة للبروفيسور أنس الحجي.
3. أزمة الطاقة في أوروبا .. هل يحل الغاز المسال مشكلة الغاز الروسي؟ – موقع dw